فصل: (سورة هود: الآيات 74- 75)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فانصرفوا وهم يقولون: النجا النجا فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقد سحرونا، وجعلوا يقولون: يا لوط كما أنت حتى نصبح، يتوعدونه، فقال لهم لوط: متى موعد هلاكهم؟ فقالوا: الصبح قال: أريد أسرع من ذلك أن تهلكونهم الآن، فقالوا: أليس الصبح بقريب قالوا له: فأسر بأهلك، قرأ أهل الحجاز بوصل الألف من سرى يسري ويدلّ عليه قوله تعالى: {واليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] وقرأ الباقون بقطع الألف من أسرى يسري اعتبارًا بقوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وهما بمعنى واحد.
{فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اليل} قال ابن عباس: بطائفة من الليل، الضحّاك: ببقية، قتادة: بعد مضي صدره، الأخفش: بعد جنح، وقيل: بعد هدوء، وبعضها قريب من بعض.
{وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك} قرأ ابن كثير وأبو عمرو: أمراتك برفع التاء على الاستثناء من الالتفات أي ولا يلتفت منكم أحد إلاّ امرأتُك فإنها تلتفت وتهلك، وإنّ لوطًا خرج بها، ونهى من معه ممن أُسرى بهم أن يلتفت سوى زوجته، فإنها لما سمعت هدّة العذاب التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها.
وقرأ الباقون بنصب المرأة على الاستثناء من الأهل، أي فأسر بأهلك بقطع من الليل إلاّ امرأتك ولا يلتفت منكم أحد، فإنه مصيبها ما أصابهم من العذاب غير مخطيها ولا يُخطيهم.
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} أي إن موعد هلاكهم هو الصبح، فقال لوط: أُريد أسرع من ذلك، فقالوا: {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} عذابنا: {جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} وذلك أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت قرى قوم لوط المؤتفكات سدوم وعامورا ودادوما وصبوا، فرفعها حتى سمع أهل السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، ثم جعل عاليها سافلها.
روي «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل-عليه السلام-: إن الله تبارك وتعالى سمّاك بأسماء ففسّرها لي، قال الله في وصفك: {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 20-21] فأخبرْني عن قوّتك، قال: يا محمد رفعت قرى قوم لوط من تخوم الأرض على جناحي في الهواء حتى سمعت ملائكة سماء الدنيا أصواتهم وأصوات الديكة ثم قلبتها ظهرًا لبطن، قال: فأخبرني عن قوله: {مُّطَاعٍ} قال: إن رضوان خازن الجنان، ومالكًا خازن النيران متى كلفتهما فتح أبواب الجنة والنار فتحاهما لي، قال: فأخبرْني عن قوله: {أَمِينٍ} قال: إن الله عزّ وجلّ أنزل من السماء مائة وأربعة كتب على أنبيائه لم يأتمن عليها غيري».
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} أي على شذاذها وسافليها، وقال أبو عبيدة: مَطَر في الرحمة، وأمطر في العذاب: {حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ} قال مجاهد: أولها حجر وآخرها طين، وقال ابن عباس ووهب وسعيد بن جبير (سنك): و(كل) حجارة وطين، قتادة وعكرمة: السجّيل: الطين دليله قوله تعالى: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ} [الذاريات: 33] قال الحسن: كان أصل الحجارة طينًا فشدّدت.
وروى عكرمة أيضًا أنه قال: هو حجر معلق في الهواء بين الأرض والسماء منه أنزل الحجارة، وقيل: هو جبال في السماء وهي التي أشار الله إليها فقال: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] وقال أهل المعاني: السجّيل والسجّين واحد، وهو الشديد من الحجر والضرب. قال ابن مقبل:
ورجلة يضربون البيض عن عرض ** ضربًا تواصت به الأبطال سجينا

والعرب تعاقب بين اللام والنون، قالوا: لأنّها كلها ذلقة من مخرج واحد ونظيره في الكلام هلّت العين وهنّت إذا أصيبت وبكت، وقيل: هو فعيل من قول العرب أسجلته إذا أرسلته فكأنها مرسلة عليهم، وقيل: من سجلت لهم سجلا إذا أعطيتهم كأنهم أُعطوا ذلك البلاء والعذاب، قال الفضل بن عباس:
من يُساجلْني يساجلْ ماجدًا ** يملأ الدلو إلى عقد الكرب

{مَّنْضُودٍ} قال ابن عباس: متتابع، قتادة: بعضها فوق بعض، الربيع: قد نضد بعضه على بعض، عكرمة: مصفوف، أبو بكر الهذلي: معدّ وهي من عدة (الله) التي أُعدت للظلمة.
{مُّسَوَّمَةً} من نعت الحجارة، وهي نصب على الحال ومعناها مُعلّمة قتادة وعكرمة: مطوقة بها نضح من حمرة، ابن جريج: كانت لا تشاكل حجارة الأرض، الحسن والسدّي: مختومة، وقيل: مشهورة، ربيع: مكتوب على كل حجر اسم من رُمي به.
{وَمَا هِيَ} يعني تلك الحجارة: {مِنَ الظالمين} من مشركي مكّة: {بِبَعِيدٍ} قال مجاهد: يرهب بها قريشًا، قتادة وعكرمة: يعني ظالمي هذه الأُمة والله ما أجار الله منها ظالمًا بعد، وقال أنس بن مالك: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام عن قوله تعالى: {وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} قال: يعني بها ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلاّ هو يعرف أي حجر سقط عليه. اهـ.

.قال الزمخشري:

{وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ}
{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} لم ينشئكم منها إلا هو، ولم يستعمركم فيها غيره. وإنشاؤهم منها خلق آدم من التراب {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها} وأمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار، وعمروا الأعمار الطوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبى من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه: إنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي. وعن معاوية بن أبى سفيان أنه أخذ في إحياء الأرض في آخر أمره، فقيل له، فقال: ما حملني عليه إلا قول القائل:
لَيْسَ الفَتَى بِفَتيً لَا يُسْتَضَاءُ بِهِ ** وَلَا تَكُونُ لَهُ في الأَرْضِ آثَارُ

وقبل: استعمركم من العمر، نحو استبقاكم من البقاء، وقد جعل من العمرى. وفيه وجهان، أحدهما: أن يكون استعمر في معنى أعمر، كقولك استهلكه في معنى أهلكه، ومعناه: أعمركم فيها دياركم، ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم. والثاني أن يكون بمعنى جعلكم معمرين دياركم فيها، لأنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنما أعمره إياها، لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لغيره قَرِيبٌ دانى الرحمة سهل المطلب مُجِيبٌ لمن دعاه وسأله فِينا فيما بيننا {مَرْجُوًّا} كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد فكنا نرجوك لننتفع بك، وتكون مشاورًا في الأمور ومسترشدًا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك. وعن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدّمك على جميعنا. وقيل: كنا نرجو أن تدخل في ديننا وتوافقنا على ما نحن عليه يَعْبُدُ آباؤُنا حكاية حال ماضية مُرِيبٍ من أرابه إذا أوقعه في الريبة وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة باليقين. أو من «أراب الرجل» إذا كان ذا ريبة على الإسناد المجازى. قيل {إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} بحرف الشك وكان على يقين أنه على بينة، لأنّ خطابه للجاحدين، فكأنه قال: قدّروا أنى على بينة من ربى، وأنى نبىّ على الحقيقة، وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربى في أوامره، فمن يمنعني من عذاب اللّه؟ {فَما تَزِيدُونَنِي} إذن حينئذ {غَيْرَ تَخْسِيرٍ} يعنى تخسرون أعمالى وتبطلونها. أو فما تزيدونني بما تقولون لي وتحملوننى عليه غير أن أخسركم، أي أنسبكم إلى الخسران وأقول لكم إنكم خاسرون آيَةً نصب على الحال قد عمل فيها ما دلّ عليه اسم الإشارة من معنى الفعل. فإن قلت: فبم يتعلق {لَكُمْ} قلت: بآية حالا منها متقدّمة، لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأجر عن مسكم لها بسوء إلا يسيرًا، وذلك ثلاثة أيام ثم يقع عليكم تَمَتَّعُوا استمتعوا بالعيش فِي {دارِكُمْ} في بلدكم. وتسمى البلاد الديار، لأنه يدار فيها أي يتصرف. يقال: ديار بكر، لبلادهم. وتقول العرب الذين حوالى مكة: نحن من عرب الدار، يريدون من عرب البلد. وقيل: في دار الدنيا. وقيل: عقروها يوم الأربعاء وهلكوا يوم السبت {غَيْرُ مَكْذُوبٍ} غير مكذوب فيه، فاتسع في الظرف بحذف الحرف وإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود، من قوله:
وَيَوْمَ شَهِدْنَاهُ.....

أو على المجاز، كأنه قيل للوعد: نفى بك، فإذا وفي به فقد صدق ولم يكذب. أو وعد غير كذب، على أنّ المكذوب مصدر كالمجلود والمعقول، وكالمصدوقة بمعنى الصدق {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} قرئ مفتوح الميم لأنه مضاف إلى إذ، وهو غير متمكن، كقوله:
عَلَى حِينَ عَاتَبْتُ المَشِيبَ عَلَى الصِّبَا

فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على نجينا، لأنّ تقديره ونجيناهم من خزى يومئذ، كما قال: {وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ} على: وكانت التنجية من خزى يومئذ، أي من ذله ومهانته وفضيحته، ولا خزى أعظم من خزى من كان هلاكه يغضب اللّه وانتقامه. ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة، كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. وقرئ {أَلا إِنَّ ثَمُودَ} ولِثَمُودَ كلاهما بالصرف وامتناعه، فالصرف للذهاب إلى الحىّ أو الأب الأكبر، ومنعه للتعريف والتأنيث، بمعنى القبيلة.

.[سورة هود: الآيات 69- 73]

{وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)}
{رُسُلُنا} يريد الملائكة. عن ابن عباس: جاءه جبريل عليه السلام وملكان معه. وقيل: جبريل وميكائيل وإسرافيل. وقيل: كانوا تسعة. وعن السدى: أحد عشر {بِالْبُشْرى} هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط، والظاهر الولد سَلامًا سلمنا عليك سلاما سَلامٌ أمركم سلام. وقرئ: {فقالوا سلما قال سلم}، بمعنى السلام. وقيل: سلم وسلام، كحرم وحرام، وأنشد:
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إيِه سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ** كَمَا اكْتَلَّ بِالبَرْقِ الْغَمَامُ اللَّوَائِحُ

{فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ} فما لبث في المجيء به، بل عجل فيه. أو فما لبث مجيئه. والعجل: ولد البقرة، ويسمى الحسيل والخبش بلغة أهل السراة، وكان مال إبراهيم عليه الصلاة والسلام البقر {حَنِيذٍ} مشوىّ بالرضف في أخدود. وقيل حَنِيذٍ يقطر دسمه، من حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى تقطر عرقا، ويدل عليه {بِعِجْلٍ سَمِينٍ}. يقال: نكره وأنكره واستنكره، ومنكور قليل في كلامهم، وكذلك: أنا أنكرك، ولكن منكر ومستنكر، وأنكرك. قال الأعشى:
وَأَنْكَرَتْنِى وَمَا كَانَ الَّذِى نَكِرَتْ ** مِنَ الْحَوَادِثِ إلّا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا

قيل: كان ينزل في طرف من الأرض فخاف أن يريدوا به مكروها. وقيل: كانت عادتهم أنه إذا مسّ من يطرقهم طعامهم أمنوه وإلا خافوه، والظاهر أنه أحسّ بأنهم ملائكة، ونكرهم لأنه تخوّف أن يكون نزولهم لأمر أنكره اللّه عليه أو لتعذيب قومه، ألا ترى إلى قولهم: {لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ} وإنما يقال هذا لمن عرفهم ولم يعرف فيهم أرسلوا {وَأَوْجَسَ} فأضمر. وإنما قالوا: {لا تَخَفْ} لأنهم رأوا أثر الخوف والتغير في وجهه.
أو عرفوه بتعريف اللّه. أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف، لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب {وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ} قيل: كانت قائمة وراء الستر تسمع تحاورهم. وقيل: كانت قائمة على رؤسهم تخدمهم. وفي مصحف عبد اللّه: {وامرأته قائمة وهو قاعد فَضَحِكَتْ} سرورًا بزوال الخيفة أو بهلاك أهل الخبائث. أو كان ضحكها ضحك إنكار لغفلتهم وقد أظلهم العذاب. وقيل: كانت تقول لإبراهيم: اضمم لوطًا ابن أخيك إليك فإنى أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، فضحكت سرورًا لما أتى الأمر على ما توهمت. وقيل ضحكت فحاضت.
وقرأ محمد بن زياد الأعرابى {فَضَحِكَتْ} بفتح الحاء يَعْقُوبَ رفع بالابتداء، كأنه قيل: ومن وراء إسحاق يعقوب مولود أو موجود، أي من بعده. وقيل الوراء: ولد الولد، وعن الشعبي أنه قيل له: أهذا ابنك؟ فقال نعم، من الوراء، وكان ولد ولده. وقرئ {يَعْقُوبَ} بالنصب، كأنه قيل. ووهبنا لها إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، على طريقة قوله:
لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلَا نَاعِبٍ

الألف في يا وَيْلَتى مبدلة من ياء الإضافة، وكذلك في «يا لهفًا» و«يا عجبًا» وقرأ الحسن: {يا ويلتى}، بالياء على الأصل. وشَيْخًا نصب بما دلّ عليه اسم الإشارة. وقرئ شيخ، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا بعلى هو شيخ. أو بعلى: بدل من المبتدأ، وشيخ: خبر، أو يكونان معًا خبرين. قيل: بشرت ولها ثمان وتسعون سنة، ولإبراهيم مائة وعشرون سنة {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} أن يولد ولد من هرمين، وهو استبعاد من حيث العادة التي أجراها اللّه. وإنما أنكرت عليها الملائكة تعجبها ف {قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} لأنها كانت في بيت الآيات ومهبط المعجزات والأمور الخارقة للعادات، فكان عليها أن تتوقر، ولا يزدهيها ما يزدهى سائر النساء الناشئات في غير بيوت النبوة، وأن تسبح اللّه وتمجده مكان التعجب، وإلى ذلك أشارت الملائكة صلوات اللّه عليهم في قولهم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أرادوا أن هذه وأمثالها مما يكرمكم به رب العزة ويخصكم بالإنعام به يا أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب. وأمر اللّه: قدرته وحكمته: وقوله: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ} كلام مستأنف علل به إنكار التعجب، كأنه قيل: إياك والتعجب، فإنّ أمثال هذه الرحمة والبركة متكاثرة من اللّه عليكم. وقيل: الرحمة النبوة، والبركات الأسباط من بنى إسرائيل، لأنّ الأنبياء منهم، وكلهم من ولد إبراهيم {حَمِيدٌ} فاعل ما يستوجب به الحمد من عباده {مَجِيدٌ} كريم كثير الإحسان إليهم. و{أهل البيت}: نصب على النداء أو على الاختصاص، لأن {أَهْلَ الْبَيْتِ} مدح لهم: إذ المراد: أهل بيت خليل الرحمن.

.[سورة هود: الآيات 74- 75]

{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)}
{الرَّوْعُ} ما أوجس من الخيفة. حين نكر أضيافه. والمعنى: أنه لما اطمأن قلبه بعد الخوف ومليء سرورا بسبب البشرى بدل الغم، فرغ للمجادلة، فإن قلت: أين جواب لما؟
قلت: هو محذوف كما حذف قوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا} وقوله: {يُجادِلُنا} كلام مستأنف دال على الجواب. وتقديره: اجترأ على خطابنا، أو فطن لمجادلتنا، أو قال: كيت وكيت: ثم ابتدأ فقال: {يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ} وقيل في {يُجادِلُنا}: هو جواب لما، وإنما جيء به مضارعًا لحكاية الحال: وقيل: إن «لما» ترد المضارع إلى معنى الماضي، كما تردّ «إن» الماضي إلى معنى الاستقبال، وقيل: معناه أخذ يجادلنا، وأقبل يجادلنا. والمعنى: يجادل رسلنا. ومجادلته إياهم أنهم قالوا: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ} فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون رجلا من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. قال: فثلاثون؟ قالوا: لا.
حتى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم إن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا.
فعند ذلك قال: {إِنَّ فِيها لُوطًا قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ}. {فِي قَوْمِ لُوطٍ} في معناهم. وعن ابن عباس: قالوا له: إن كان فيها خمسة يصلون رفع عنهم العذاب. وعن قتادة: ما قوم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير. وقيل: كان فيها أربعة آلاف ألف إنسان {إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ} غير عجول على كل من أساء إليه {أَوَّاهٌ} كثير التأوّه من الذنوب {مُنِيبٌ} تائب راجع إلى اللّه بما يحب ويرضى. وهذه الصفات دالة على رقة القلب والرأفة والرحمة، فبين أنّ ذلك مما حمله على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع عنهم العذاب، ويمهلوا لعلهم يحدثون التوبة والإنابة كما حمله على الاستغفار لأبيه.

.[سورة هود: آية 76]

{يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)}
{يا إِبْراهِيمُ} على إرادة القول: أي قالت له الملائكة {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الجدال وإن كانت الرحمة ديدنك، فلا فائدة فيه {إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ} وهو قضاؤه وحكمه الذي لا يصدر إلا عن صواب وحكمة، والعذاب نازل بالقوم لا محالة، لا مردّ له بحدال ولا دعاء ولا غير ذلك.